Avatar

خفـة

@belalalaa / belalalaa.tumblr.com

Avatar

ليس هذا حديثًا عن الحب

أَلا يا نَسيمَ الريحِ حُكمُكَ جائِرٌ..عَلَيَّ إِذا أَرضَيتَني وَرَضيتُ _قيس بن الملوح

كنت أفكر أن أكتب تحليلا مزدوجا لشئ آخر غير الحب، التحليل كان سيشمل قصة "عم نتحدث حين نتحدث عن الحب" وفيلم كيسلوفسكي" فيلم قصير عن الحب"، الفكرة في ذهني بسيطة، القصة والفيلم لا يتحدثان عن الحب ، يعلمان ذلك، يتحدثان عن شئ غالبا ما يتم دمجه في الحب، هذا الشئ قد يكون هو الهوس، قد يكون الحب من جانب واحد،  بعد تعريته من أي شاعرية، قد يكون اضطرابًا نفسيًا. لكني لن أكتب. 

تولد الأفكار في ذهني في ذروة فتوتها، ثم يقص حسي النقدي كل ريشها، ولهذا غالبًا لا تطير. تظل تتقافز حولي كأن بوسعي أن ألصق الجناحين مرة أخرى، وهو أمر أظنني لا أستطيعه، لكني أستطيع تأمل لماذا نفرت من الفكرة بعد سطوعها الأول.  السبب بسيط، لأنها تتحدث عن شئ لطالما تحدثت عنه، هذا الخيط البسيط بين الهوس والحب، تشترك القصة والفيلم ، في رسم صورة قبيحة للهوس بالمحبوب، وملاحقته، والدبدبة في الأرض، بشكل يُفشل أي تدخلات جراحية لإنقاذ شاعرية ما فيه.

 في القصة كما نعلم  يجلس أربعة، ميل وزجته تيري، والراوي نيك وزوجته لورا، يتحدثون عن الحب، تحكي تيري عن الرجل الذي عاشت معه قبل زوجها ميل، أنه أحبها لدرجة محاولة قتلها، تحكي عن عنفه تجاهها، ثم ملاحقتها بعد انفصالهما وتهديده الدائم لها ولزوجها، تعكيره الدائم لصفو حياتهم، حتى أن ميل يشتري سلاحًا ليدافع عن نفسه إن اقتضت الحاجة. يتدخل زوجها في القصة كل حين ، ليؤكد أن هذا ليس حبًا بكل تأكيد، بينما تيري، مصرة على أنه حب، قد يكون حبًا غريبًا لا يفهمه زوجها، لكنه حب، يبدو رد فعلها مفهوما الآن، فهي من جهة أصبحت آمنة، والمحب المهووس لن يصل إليها، فقد انتهى به الأمر في المستشفى، حيث جلست تيري معه في لحظاته الأخيرة، وإذن  لم يتبق منه سوى هذه الحكاية، وهي تريدها حكاية حب، لتبرر الألم بأثر رجعي من جهة(المعاناة كانت ابنة حب حاد وغريب، وليس نتيجة لانخداع أو سوء حسابات)، ومن جهة، لأنه ماذا يمكن أن يملأ روح أي إنسان أكثر من حب جارف، كيف يمكن لإنسان أن يرفض هذه الاحتمالية، ويفسرها بأنه مجرد هوس اتخذ المحبوب موضوعًا، حيث الهوس هنا ليس أحد درجات العشق، بل العشق هو مجرد تجلي للهوس، الهوس هو الموضوع الحقيقي خلف الحب.

ومن جهة ثالثة وأهم، ففي بداية قصتها، وبعدما حكت عن عنف رجلها السابق، أدارت تيري نظرها حول الطاولة وسألت "كيف تتصرف مع حب كهذا؟".

شوق لا يسكن باللقاء

هذا السؤال الذي يلخص ارتباك تيري، يصلح مدخلًا لفيلم كيسلوفسكي، في الفيلم عامل شاب في البريد(توميك)، يتلصص ، عن طريق تليسكوب، على امرأة ثلاثينية جميلة(ماجدا) في عمارة مقابلة، يشاهد طقوسها اليومية، بكاءها، عشاقها، يبعث لها حوالات بريدية مزيفة ليراها حين تأتي لمكتب البريد لصرفها، وحين يكتشف أن عامل توصيل اللبن الذي يوصل اللبن لماجدا قد رحل، يأخذ عمله ليوصل لها اللبن كل صباح ليقترب منها، بجوار عمله الأصلي في البريد، بعد مشاجرة في البريد، حين تنفعل ماجدا من الحوالات التي تأتي كل مرة لأخذها ثم تكتشف زيفها، يتتبعها توميك و يخبرها بتلصصه عليها، تغضب، وفي الليل تقرب سريرها من النافذة المفتوحة ليراها مع أحد عشاقها بوضوح، تخبر العاشق ما يحدث فينزل من العمارة وينادي على توميك ويلكمه، في الصباح وهي يوصل اللبن لشقتها، يخبرها عن حبه لها، يرتبك، ويفر، يضع ثلوجا على وجهه كأنما ليطفئ مشاعره، يعود لشقتها ثم يدعوها لتناول القهوة معا: 

_ماذا كنت تقول في الصباح؟

_أحبك

_لا يوجد شئ مثل هذا

يذهب لبيتها، تجعله يمسها حتى يصل للنشوة، تخبره" أريت..هذا ما تسميه الحب، ..اغسل نفسك في الحمام..هناك منشقة"يفر من شقتها، يعود لشقته، تشعر بالذنب وتحاول التواصل معه بلا فائدة،ه، ومثلما وجدت تيري نفسها في القصة مصرة على أن تكون بجوار حبيبها القديم في المستشفى، تحاول ماجدا أن تفعل الشيء نفسه، تذهب لبيته لتطمئن عليه بحجة إعادة معطفه، تخبرها العجوز بما حدث، وتسألها:

_ قد تظنين الأمر مضحك، لكنه وقع في حبك..هل وقع في حب الشخص الخطأ؟

تجيب ماجدا :نعم

تظل ماجدا تراقب نافذة توميك حتى يعود من المستشفى. فكرتي كانت أن توميك لم يقع في حب الشخص الخطأ بالخطأ، بتعبير آخر، لم يكن يمكنه إلا الوقوع في حب الشخص الخطأ، الشخص الخطأ هنا في المكان السليم في القصة، صحيح يمكن تفسير الفيلم أن بطله هو توميك، أسير معضلة حب المحبوب، وعدم الرغبة أو القدرة في الوصول إليه، لكن، في رأيي، الفيلم يتحدث عن معضلة ماجدا، التي لخصتها تيري "كيف يمكن تلقي حب مثل هذا"، وفي الفيلم والقصة، هذا الحب لا يمكن تلقيه، إنه ملقى من البداية لكي يتحطم ويحطم كل من يحاول تلقيه، لا ليتلقاه الشخص الصحيح.

"من قام بثيابه الحريق، كيف يسكن؟"

نفس المعضلة توجد أيضًا في أحد قصائد عماد أبو صالح: 

"يهددها القمر بالانتحار

لأنها تحب ولدًا آخر

تفرد ثوبها

وتقف في الليل وحيدة

لتتلقفه إن ألقى بنفسه"

ولا أعلم بالطبع إن كان عماد يقصد ذلك أم لا، لكن مجاز القمر مفيد في توضيح المعنى، فهي لن تتمكن من تلقف القمر، وما سيحدث هو أنه سيحطمها ويحطم عالمها كله.

إذن لماذا استصعبت فكرة كتابة التحليل، لأن كل ما أقوله، يعتمد على الاتفاق مع الزوج ميل، "هذا بالتأكيد ليس حبًا"،  ومثل ميل لا يمكنني الاستطراد أكثر من النفي، لا يمكنني أن أشرح لماذا هذا ليس حبًا، أو أن أضع معايير للحب، وأعيد تعريفه، لأنضم لملايين الكتاب الذين حاولوا دون جدوى فعل ذلك، ليتخبطوا بين نصائح مبسطة في علم النفس، ومراوغات لغوية صوفية تتحصن بالغموض من التصريح بالعجز عن الإجابة، وبين إعادة اختراع الفكرة الرومانسية عن "شقيق الروح"، الحبيب الذي نعرفه بنظرة، "المختار" الذي بمجرد أن نلتقيه أن ما سبق كان أحلاما عن الحب، والآن واقعه. وأفكر هل إذن لا يمكن تعريف الحب، إلا بالنفي المتكرر ، دون إثبات أي شئ؟.. لا أصل لنتيجة، وأعود أفكر في السؤال الأول "كيف تتصرف مع حب مع كهذا"، وطبعًا، أصل، إلى أحمد رامي.

يااللي كان يشجيك أنينى

في الأغنية ، لم يجب رامي عن السؤال "كيف تتلقف حب مثل هذا؟"، لكنه أجاب عن سؤال يسبقه وإن لم يتم طرحه : "لماذا عليك أصلًا أن تتلقف حب مثل هذا"، وإجابته كما نعرف: "

عزة جمالك فين، من غير ذليل يهواك؟!

وتجيب خضوعي منين ولوعتي بهواك؟!"

يجب تلقي هذا الحب، لأنه يحقق ذات المحبوب، بفناء ذات المحب، والمحبوب هنا لا تتعرض نرجسيته لأي مساءلة، فاستغراقه في نفسه، هو السبيل الوحيد لاستغراق المحب في حبه أو هوسه، الاستغراق الذي هو استسلام لانعدام وجود حلول، وليس مصادفة أن المحبوبة في الأغنية، هي ذاتها، لا تستطيع أن تتلقف هذا الحب، وينتهي بها الأمر كما تيري وكما ماجدا، أسيرة هذا الحب وآسرته: "صبحت أبكي على حبي وتبكي انت على دموعي".

والانهمام بالحب نفسه، أكثر من المحبوب، يظهر كذلك في اغنية أخرى لرامي،  وربما يفسر لي مقطعًا لطالما فكرت فيه بدون أن أصل إلى تفسير مناسب، والأغنية طبعًا هي ، "انت الحب".

تبدأ الأغنية بتأسيس عالم السباق في الحب" 

ياما قلوب هايمة حواليك.... تتمنى تسعد يوم برضاك"

ثم توضح أن الشاعر هو جزء من هذا السباق:

وانا اللي قلبي ملك ايديك... تنعم وتحرم زي هواك

ثم توضح مميزات المحب في هذا السباق وجدارته:

"الليل عليّ طال... بين السهر والنوح

واسمع لوم العذّال.... اضحك وانا المجروح

وعمري ما اشكي من حبك.... مهما غرامك لوعني

ثم خوفه من خسارة هذا السباق:

لكن أغير من اللي يحبك.... ويصون هواك أكتر مني.

الغيرة هنا لا تحدث لأن المحب الآخر قد يظفر بالحبيبة، ولكن لأنه قد يظفر في سباق الحب نفسه، الحبيبة خارج الحدث، ولا تمثل حتى نقطة النهاية فيه. والحب/الهوس هو السباق والجائزة ونقطة البداية والنهاية معًا، وإذن يكون منطقيًا أن تنتهي الأغنية بلقاء متخيل مع محب آخر: 

"ولما اشوف حد يحبك.... يحلالي اجيب سيرتك وياه

واعرف جراله إيه في حبك.... وقد إيه صانه ورعاه

أسأله إن غبت عنه يا حبيبي يشتاق إليك قدي أنا

وان جافيته يا حبيبي يسهر الليل ويناجيك زيي أنا

ألاقي قلبي أنا.... حبه ما جه على بال"

يستغرق المحب في الحب، ويقيسه بجوار حب الآخرين، الحب هنا قابل للتعيير والقياس، وأصالته لا ترتبط بفرادة ذاتية، ولا بصلة خاصة بالمحبوب كما في التصور الرومانسي للحب، بل ترتبط بموقعه في السباق، الموقع الذي لا يمكن تحديده إلا بشكل ذاتي، ولا يمكن التأكد منه إلا بالمزيد من الاستغراق فيه.

إذن لماذا لن أكتب عن القصة والفيلم؟

لأنهما لا يتحدثان عن الأمر نفسه. في القصة الزوج المؤذي، يظفر بالحبيبة، وفي ظفره بها، لا يفيده ذلك في شئ، وتحليل إجرامه، يحتاج معلومات أخرى لا يمكن تخمينها، وهي بالأحرى غير موجودة في شخصية خيالية، وفي الفيلم، الشاب الأعزب المرتبك المحصور داخل عالم من صنع خياله، ينتمي لفئة أخرى غير الزوج العنيف، أهش، وتظهر فيه المراهقة في حدة المشاعر وفي عدم احتمالها، في الخوف والجرأة، في التلصص والتصريح، في الهروب المتكرر مما كان يحسب نفسه يطارده، أما رامي، فهو شخص حقيقي، يستحيل الفصل بين أغانيه وبين حياته، ويستحيل الجمع بينهما، دون السقوط في التلصص الخيالي على حيوات قديمة هجرت مبانيها. لكن هذا قد يكون رده أن الحديث ليس عن الشخصيات بل عما يربط بينهم، هذا "الحريق" الذي يحرق صاحبه ويحرق ما حوله، وقد يكون هذا صحيحًا، فمفهوم بالطبع أني لا أناقش شخصية رامي، بل المحب في القصيدة، كان رامي أم كان ضرورة شعرية، كما أن حتى شخصية المحب في قصائده تظل أحن وأطيب من الشخصيات الأخرى بما لا يقاس.  لكن مناقشة المشترك بجدية، تحتاج لتحمل ثقل عاطفي لا قبل لي به، ويمكن التخلص من هذا بالقول أن شخصيات المحبين مختلفة، وشخصيات المحبوبات مختلفة أيضًا، وهن أيضًا عاجزات عن تلقف هذا الشئ الذي لا يمكن تلقفه، ودون السقوط في فخ النصائح أو الحكم الجزافي بالمرض النفسي، قد يكون لسان حال المحبوبات، في الرد على السؤال "لماذا لم تتلقفنن مثل هذا الحب"، هو ما قالته بدرية طلبة في لا تراجع ولا استسلام : " ايه القرف اللي انتوا جايبينه دا".

خاتمة أكثر اتساقًا

لكني أعرف أن النهاية السابقة هي مراوغة وليست ختام. أفكر أن الحب في النهاية كلمة، ورغم احتمال الكلام لمدلولات شتى، يحتمل أن الحب ككلمة قد تحطمت في السيل التاريخي لمحاولات التدليل عليها، والأجدى أن نستخدم كلمات أخرى، أقل ضبابية، لكنها ستكون عزلاء من كل حصون الشعر والبلاغة والحكايات المتراكمة تاريخيًا حول الحب، وإذن أقل إيحاءً بالتعالى عن منطق العالم، الإيحاء الذي يحمي الإنسانية بدوره، من الانزلاق إلى التعبير عن كل المشاعر الإنسانية بلغة "السوق"، مثل ، العرض، والطلب، والاحتكار، والقيمة التبادلية، والقيمة النفعية، وغيرهم. فإن كان التعبير عن الحب بالحب، يعرضنا، بجانب التيه الدلالي، لمخاطر تبرير الأذى، أو صعوبة الإمساك به بعد تحاميه بالحب، فاللجوء إلى كلمات أكثر مباشرة، ينزع منا حتى الحق في الألم، لأن الألم يصبح نتيجة لقوانين كونية، لا يمكن مساءلتها. لتكون المعضلة: هل يمكن التدخل جراحيًا لفصل الحب عن الهوس به، بحيث يحتفظ بتعاليه، وفي الوقت نفسه، لا يصير حصنًا لأشياء أخرى تتحامي به؟

عند هذه النقطة أنتبه لشئ قد يبدو بديهيًا، كان انجذابي للكتابة عن الفيلم والقصة، هو مخالفتهما لوعدهما، فعنوان الاثنين، يوحي بقصة يكون فيها الحب خيرًا، أو مآساويًا جميلًا، لكن ما فعلاه أنهما تحدثا عن الحب،  كضلال بين، مثلما يضلل العنوانان القارئ والمشاهد، وأن هذه الفكرة لم تكن طائرًا قصصت أجنحته، بل أجنحة صنعت لها طائرًا، حلق وهلة، ثم ها هو يسقط، ليستريح.

خاتمة ثالثة تصلح كملاحظة

أنتبه أخيرًا أن اقتضاء الحاجة لصنع الطائر حول الجناحين، استبعد تحليلات لم يكن لها مجال. مثلًا أعرف أن الفيلم ، كانت نسخته الأقصر هي الحلقة السادسة من مسلسل من عشر حلقات، استلهم فيه كيسلوفسكي "الوصايا العشر" التي أعطاها الله لموسى. وبالتحديد كانت الحلقة عن الوصية "لا تزن"، ولذلك يمكن تحليل الفيلم بشكل مغاير ليتركز حول التفسير العلماني الذي يقوم به كيسلوفسكي لوصية دينية. أيضًا، في القصة، هناك أبعاد أخرى للحب، حب ميل وتيري أنفسهم، علاقة ميل بزوجته السابقة، الحب بين الراوي نيك وزوجته لورا، كلهم أبعاد حاضرة في القصة. أما إن وصلنا لرامي، فتحليل أغانيه كخطاب ثابت، رغم أنها كتبت على مدار سنين طويلة، هو وصفة أكيد للفتي ولوي عنق الكلام. وليست مصادفة في رأيي، أنه بينما أكتب هذا المقال، كنت أفكر في كلمة "المؤلف"، التي تستخدم في اللغة العربية للدلالة على الكاتب. ولا أظني بحاجة للاستطراد أكثر من هذا (أو بالتحديد يحتاج الموضوع لاستطراد لا أقوى عليه، وهو السبب الأساسي في التردد في الكتابة)، فالطائر قد سقط منذ الفقرة السابقة، وإنما جلست، زيادة، لأؤنسه. 

Avatar

قالت الوردة لابنتها: أوصيك بالرقة لا الهشاشة

قال الأب: أوصيك باللين لا الوداعة

قالت الخالة: أوصيك بالحذر لا الخشية

قالت العمة: أوصيك بالتواري لا الاختباء

قال الخال: أوصيك بالسلوان لا النسيان

قال العم: أوصيك بالسرور لا الفرح

قال الأخ: أوصيك بالكتمان لا الصمت

قالت الابنة: أوصيكم بالأسى لا الحنين

Avatar

عندي لكم سؤال..إذا افترضنا أن مهمة الافتتاحات، مثلا أن تقول "عندي لك خبر جيد"، أو تصمت كثيرًا في حضرة أسرتك كي تخلق التوتر الكافي لتعلن قرارًا ما، أو حتى أن تضحك قبل أن تقول لأصدقائك "تذكرت نكتة" لتجد ذريعة لحكيتها، أو أن تصحب حبيبتك لمكان بعينه لتخبرها بحبك،  إذا افترضنا أن مهمة مثل هذه الافتتاحات هو تمهيد ساحة استقبال المعنى. وبما أن الكتابة هي كلام لا يمكن تمهيد ساحة استقباله إلا من داخله، دون نبرة صوتية ولا لغة جسدية ولا نظرات عيون، ولا تحكم في زمن ومكان التلقي، كيف إذن تمهد أي كتابة ساحة استقبال معناهًا؟

.يقول صديق بالغلاف وحجم الكتاب ونوع الخط، أقول له: غالبًا ما لا يتحكم الكاتب في هذه المتغيرات، بجوار أن هذه لغة فنية هو لا يجيدها أصلًا(وإن أجادها احتاجت لتمهيد هي الأخرى)، وإذن عليه تمهيد الساحة معتمدًا فقط على ما يكتبه؟

 يقول صديق:  مهمة علامات الترقيم هي ضبط النبرة، كما أن طول وقصر الجمل والفقرات في تتابعها هي لغة جسد الكتابة، الاسترسال قد يدل على الأريحية أو الحاجة للفضفضة بينما قصر الجمل قد يشير للتوتر أو للحاجة للحسم. صحيح أنه لا يمكن تحديد معاني قاطعة للغة جسد الكتابة (كما لا يمكن  ضبط معنى قاطع للغة الجسد، مثلهما مثل اللغة نفسها)، لكنها تظل تحمل معنى ما، على الكتابة نفسها أن تكمله (أو تتحرك من خلاله). أقول له: لو استبعدنا الشعر الحر والمنثور، حيث هناك أحيانًا وعي بالإخراج المسرحي لتتابع الكلمات، فتقسم الجملة، بل والكلمة الواحدة أحيانًا، في عدة سطور،  ثم تتابع ثلاثة جمل في سطر واحد، أحيانًا أخرى، لو استبعدنا ذلك (يفترض الاستبعاد، لضرورة المضي في الكلام ، تمكن الكتاب من الإخراج المسرحي نفسه، قدر تمكنهم من الكتابة، أي أنهم يتكلمون اللغتين بذات التمكن، وهو افتراض جزافي)، فالكتابة النثرية نادرًا ما تهتم بالتوزيع الدرامي للكلمات على مسرح الصفحة، بل تمهد ساحة استقبال معناها معتمدة فقط على تتابع كلماتها وحده.

يقول ثالث: هذه مهمة الكاتب في اختيار مفرداته، شائعة أم غريبة، ومهمته في اختيار تراكيبها، تقليدية أم جديدة، وتلك أصل معركة كبرى بين طرفين، يختار الأول التكثيف المجازي ليمهد المسرح للقارئ للانفتاح للجديد (فالجديد لا يمكن التعبير عنه إلا باشتغال الخيال ، فلا دلالات معدة له مسبقًا)، ويختار الثاني المفردات اليومية، ليمهد المسرح للقارئ ألا ينتظر الحكمة، أقول له،:أن هذا التحليل يقع في افتراض تمكن الكتاب من لغة عارمة الاتساع، ويختارون منها بمطلق الحرية ما يشاؤون، وما يختارونه في النهاية يظل واسعًا كفاية ليعبر عن المعنى(لغة لا نهائية فيظل نصفها وربعها وثمنها لا نهائيين أيضًا)، وهم في النهاية أسرى محدودية حصيلتهم اللغوية(وبالتالي يحدون ما هو محدود من البداية(لأنهم لا يأخذون نصف اللغة الأصلية بل نصف حصيلتهم هم)، صحيح في هذه الحدود، يمكنهم مفاضلة الأغرب على الغريب والشائع على الأكثر شيوعًا، لكن اختيارهم اللغوي سيؤثر على براعتهم في إيصال المعنى(مطابقة الكلام لمقتضى الحال)، وإذن يأتي تمهيد ساحة استقبال المعنى، على حساب المعنى نفسه (الفرح منصوب، وأصحابه غائبون).

يصيح رابع وقد غلبه الضجر: تحاول أن تقول أنه لا يمكن تمهيد ساحة استقبال المعنى، إلا من خلال دراما الكتابة نفسها، وإذن على الكتابة أيا كان نوعها( قصة، مقال نظري)، أن تكون حكاية، فأول افتراضات أي حكاية، أن هناك بداية ما، وذلك يحرَّر الكاتب من تمهيد ما قبل البداية، ليكون التمهيد جزء من الحكاية نفسها، لكن ذلك غير دقيق، فحتى لو مهد الكاتب ساحة استقبال من خلال الحكاية، فهناك ساحة أولي لا يمكنه تمهيدها، مثلًا تختار وأنت تتكلم مع صديقك متى تفتح موضوعًا ما، في الكتابة القارئ هو من يحدد ذلك، ولأنه يستحيل أن تقول للقارئ متى وأين وفي أي حالة نفسية على أن يبدأ القراءة(حتى لو كتبت كتيب إرشادات لكيفية القراءة، سيصبح هو نفسه محتاجًا للتمهيد، وفي الأخير بلا قيمة، لأن أحدًا لن يلتزم به)، تكون محاولة تمهيد الساحة لاستقبال المعنى، فاشلة قبل أن تبدأ.

أرد، أنني لم أفكر ذلك، وما عندي فعلًا لم يكن أكثر من سؤال، ولكن هذا اختلاف جوهري بين الكتابة والكلام، يمتلك الكلام، أريحية في التمهيد، لكنه في المقابل محصور في آليات لتوازن قوى لا توجد في الكتابة، لا يمكن للقارئ مثلًا أن يغير موضوع الكتابة، ولكن يمكن للمستمع المباشر أن يغير دفة الكلام، في المقابل لا يمكن للمستمع أحيانًا أن يترك المتكلم، ويمكن للقارئ أن يترك الكتاب أو ينساه للأبد، والمتكلم دائمًا أكثر قدرة على إرغام المستمع للاستمرار في الحديث، من الكاتب، الذي مهما كان حريصًا على عدم إثارة ملل القارئ، لا يملك أن يفعل شيئا لمن يتركه. وقد تكون لهذه الحقيقة، بعدًا تحرريًا للكتابة، إذ يمكن أكثر الكتابات مللًا أن تظل مستمرة رغم رحيل كل القراء، وهنا يكون الوضع معكوسًا تقريبًا (الفرح ملغى، وأصحابه قد يكونوا حاضرين، فمادام أحد لم يستمر في القراءة فالمعنى قد يكون هناك وقد لا يكون)، أي أن الكاتب في مواجهة دائمة مع احتمالية السقوط في المونولوج (حتى لا نستخدم مفردة شاعرية في غير مكانها: الوحدة)، وربما يرى البعض أنه قدر تسليم الكاتب بهذا الاحتمال، ترتفع إمكانية تمكنه من قول ما يريد، وإذن أن يُنصب الفرح في وقت ما (إذ مهما فشل الكاتب في تمهيد ساحة استقبال المعنى، تزداد احتمالية وجود الساحة المناسبة، بالصدفة، بمرور الوقت والقراء)،  ولكن هذا يدخلنا في معضلة جديدة، بخصوص فترة صلاحية المعنى نفسه (الفرح منصوب، وأصحابه حاضرون جسديًا فقط)، ستسألني طبعًا أن كل ذلك يفترض معنى شديدة المراوغة، شديدة الجدة، ليحتاج كل ذلك، (وهو شئ نادر الحدوث إن وجد، وإذن لا يصلح منطلقًا للتفكير)، وألا داعي لهذه السفسطة ف(الجنازة حارة..)، صحيح؟

…….

…….

…….

…….

صحيح؟

Avatar

قال الصمت للكلام: أسقط في المفارقة، حين أبدأ أي جملة

قال الكلام: أنتظر المفارقة، حين أبدأ أي جملة

قال الصمت: لا أحب الهدوء ولا الضوضاء

قال الكلام: لا أخشى سوى الانتباه والتجاهل

قالت المفارقة: يلازمني صديقان لم أحبهما أبدًا، الخوف والضحك

قال الخوف للمفارقة: قديما، كان لي صديق، ولا أحضر إلا لمن يبحث عنه، لأبحث عنه

قال الضحك: أخي الأكبر، الفرح، قال لي مرة: مآساة أسرتنا وكنزها: معارفنا كثيرون، ولا صديق لنا سوى الأسى

قال الأسى: أخبرني أبي، الحنين: لا تتمسك إلا بما لا يمكنه الانفلات منك، ولو انفلت منك

قالت المفارقة: تلك مشكلتي، لا أستدعى إلا لأحل معضلة لا يمكنني حلها

قال الخوف: تلك مشكلتي، لا أستدعى إلا لأحل معضلة لا يمكنني حلها 

قال الضحك: تلك مشكلتي، لا أستدعى إلا لأحل معضلة لا يمكنني حلها

قال الكلام للصمت:  مشكلتي، استفضت أو أوجزت، يلاحقني سوء التفاهم

قال الصمت للكلام: مشكلتي، استفضت أو أوجزت، يلاحقني سوء التفاهم

قال سوء التفاهم: يشرفني طبعًا صحبتكم جميعًا

Avatar

تبهرني لعبة التمنع عن الحكي، حين تحتاج الحكاية لمطالبة دؤوبة لحكيها، ليس لأن طرفي الحوار يعلمان أن الحكي سيتدفق عند طرقة معينة على السد، وإن كانا لا يعلمان أي طرقة، وأن على أحدهم الاستمرار في الطرق، وعلى الآخر ترميم السد بسرعة بحيل لغوية مختلفة، حتى تنهمر الحكاية، ولكن ما يدهشني أن اللعبة، وقد اشتهرت ظلما بأن جنسًا بعينه يمارس ترميم السد، والآخر يطرقه، هي الطريقة الوحيدة التي يمكن بها لبعض الحكايات أن تحكى، استعداد ضروري للحكي نفسه، إنها تمهد المسرح والديكور والحالة النفسية لما سيأتي، على من يستمر  في الطرق، أن يرفع استعداداته النفسية مع كل طرقة لا تحطم السد، لأن  التمنع جزء من التدفق، واستمرار الطرق جوابه، والحوار بالفعل قد بدأ، يعلم الطارق مع كل طرقة، ثقل الحكاية، ويعلم المرمم، مع كل طرقة، تصميم الطارق  ومدى أهبته لتحمل ما يعلم الآن خطورته، بهذا في اللحظة التي تبدأ فيها الحكاية نفسها، تكون أكثر أبعادها أهمية قد حكيت، لأن البعد الأكثر جوهرية في أي حوار حقيقي( متخلص من أي توليد نصي لكسر متوهم للصمت)، هو من جهة رغبة الانكشاف والذعر منه ،ومن أخرى المغامرة بتحمل ما قد لا يحتمل، الانكشاف الذي لا يمكنه أن يحدث إلا بعد التحذير منه، لأن أي انكشاف يحترم نفسه ينبغي أن يثير الرعب.

Avatar

لم يحتج الكالو  سوى غريزته، ليعلم أن نفي الشائعة، يسير بالشائعة نفسها، أطول ما تسير بها المعلومة المزيفة الصريحة. وهكذا، فقد مر على كل فصل من المدرسة، ينفي فيه شائعة لقائه مع مروة في حديقة الأسرة في المدينة المجاورة، وأنه لن يقبل أن يتم التعريض ببنات الناس. لم تكن هناك شائعة، ومروة لم تكن تميزه عن غيره. وقد حاصرها وأهلها، فهو من الناحية التقنية،لم يفعل شيئًا إلا حمايتها، ولو ضد خطر لم يشعر به أحد. بل وربما عليهم شكره. وفي نظر بقية الأولاد، فقد ترقى طبقة، من طبقة من يتداولون الشائعات، إلى طبقة من تلاحقهم، حد ضرورة نقيها.

في غضون يوم واحد، كانت شائعة لقائه بمروة ، قد أصبحت من المسلمات، وافترضنا جميعًا، كواليسًا فاتتنا، هي ما حتمت لحظة المصارحة والاعتذار والتهديد. والتي تبعتها مشاجرات، حتمتها مروءته في الفسحة وبعد نهاية اليوم الدراسي، حين ادعى أنه سمع بعض الزملاء ، وهذه المرة كان صادقًا، يتداولون الشائعة. وهكذا أصبح الكالو بين شائعة وضحاها، عاشقًا وشهمًا نبيلًا. لكن، وكما يقال، تكره الدنيا، التذاكي. وفي عالم حيث الحصول على رقم هاتف البيت، وسماع "السلام عليكم، مين معايا"، غاية أماني العشاق، فالوصول مع الحبيبة إلى حديقة، في مدينة أخرى، ولو في شائعة كاذبة ومنفية،  لن يدع شئ في مكانه.

ولأن تاريخ أي مدرسة، هو تاريخ صراعات شللها. زلزلت الشائعات موازين القوى الرمزية. القريبون من الكالو ارتقوا معه، بسبب احتمالية معرفتهم بالكواليس، حتى أن سعيد جزرة، وهو أنتيم محمد العربي، أحد أصدقاء الكالو، أصبح مركز حلقة تكونت تلقائيا حوله أمام باب المدرسة وهو يحكي ما لم يحكى في القصة التي لم تحدث.

وبالمثل، فقد رفعت أماني المصري لواء الدفاع عن مروة في كل الدروس، وزادت على ذلك أن حكت لكل المدرسين، كيف يشوه الكالو سمعة مروة، ما نتج عنه ضربات لعصي مختلفة الألوان والأنواع على يدي الكالو، وقد تلقاها جميعًا بثبات، ضاعفت هالة الهيبة والاحترام حوله، فالمدرسين أنفسهم بعد ضربهم إياه، أسبغوا عليه مديحًا لشجاعته وحرصه على بنات الناس، وبرروا ضربهم إياه، لرعونته، فقد كان عليه الاكتفاء بمشاجرة من يسمعهم يرددون الشائعة، وليس أن يمر على الفصول، ويحرج زميلته، ولو دفاعًا عنها.

أما عامة الشعب، وأنا منهم، فقد قضينا أوقاتًا طيبة في تخيل ما حدث في الحديقة، وقال حكيمنا، وهو يضبط نضارته الطيبة، "حتى لو لم يحدث الأمر، فالشائعة تدل على الإمكانية"، وقد ظهر في الأيام التالية، حالمون ادعوا وصلًا بليلى، ليلى المغربي تحديدًا، فاتنة المدرسة، وأنهم كالكالو قد صحبوها إلى حديقة الأسرة، حتى عبدالله الأهطل، زايد عليهم، بأنه رأى من ركنه في الحديقة مع ليلى، الكالو مع مروة، وأنه يشهد الله، أن الاثنان كانا في غاية الأدب، ولم يمس أحدهما الآخر، كما تقول الذئاب، وبالتحديد أشرف دياب.

ولأننا في النهاية، مجموعة من المراهقين الحالمين، فقد اتخذنا جميعًا، وعلى مدار الأسبوع التالي للشائعة، أماكننا حول الحديقة، طلبًا للحقيقة، وفي اليوم السابع، قال محمد حكيم، "نحن نضيع أوقاتنا، بعد الشائعة لن يأتي أحد للحديقة، بالتأكيد غيروا المكان، تجنبًا لأعين المتطفلين".

وفي اليوم الثامن، جاءت مروة مع والديها للمدرسة، ورأينا أشرف دياب، يدخل حجرة المدير، مرفوع الرأس، ويخرج منها، مطأطئها، وتبعه المليجي، وجزرة، والغمرواي، لكن ما خلع قلوب العامة من أماكنها، استدعاء حكيم، فهو على حكمته، شخص من الشعب، ولم يفعل أكثر مما فعلناه، دخل حكيم غرفة المدير، بداية الفسحة، وقد تعلقت العيون بالباب، انتظارًا لما تسفر عنه الأحداث، خرج حكيم، دامعًا، وعرفنا منه أن أحدهم أخبر المدير برؤيته أمام الحديقة، والحمدلله أنه لم ير بقيتنا، تألمنا لحكيم، وإن اعترتنا فرحة أننا صرنا في دائرة المشبوهين، أما حكيم، فقد زال عنه كل سوء، عندما قالت له ليلى المغربي أمام أحد الدروس، "معلشي، عارفة إنك مظلوم". وقد تحلقنا بعد الدرس نحاول تفسير وشرح معاني كلمات جملة مروة، فأولًا هناك معلشي، بما تحمله من أسف ومواساة، وإذن عاطفة تجاه المتأسف له، ثم عارفة، أي أنها تدري ليس فقط بوجود حكيم، ولكن بجديد أمره، وهناك أداة الخطاب، إنك، وفيها أريحية، وأخيرًا " مظلوم"، أي معرفتها بتعارض الشائعة، بما تعرفه من أخلاقه. وهناك السياق نفسه، اندفاعها لمواساته دون داع، وتساءل بصلة في خشوع "هل هو الحب ؟"، ودارت العقول، واختلنا في الشوارع منتشين، بالاحتمال، فلو أصاب الحب لحكيم، فقد صرنا جميعًا في مراميه.

وتأنقنا للمدرسة، وظهر حكيم بنضارة جديدة، وحاول البعض التحلق معنا حول حكيم، طلبًا للالتحاق بالمحظوظين، هششناهم كالذباب، مدفوعين بغرور المحدثين، فقد أصبحت لنا كلمة، ونقاشات مهمة لا يصح أن يطلع الغرباء، وأهمها، ماذا سنفعل، وقد عرفنا أن أماني قد قالت لليلى هازئة وهي تهز كتفيها، في درس العربي، "معلشي، عارفة إنك مظلوم"، وقال الأطرش لحكيم "يجب أن تحمي  فتاتك"، ولكن ماذا يفعل حكيم، ولا يليق بالرجال الدخول في معاركات السيدات. واقترح بصلة اللجوء لأستاذ العربي، ليعاقب أماني، ورد  حكيم، بحكمته، أن ذلك لا يزيد سوءً عن الرد على أماني مباشرة، وتأمل خشبة في حوادث الأيام قائلًا" يأتي الحب والهم معًا"، ومرت ليلى أمامنا خجلة تنظر في الأرض، فابتسم حكيم في خشوع، وصاح بصلة " الحب جميل"، وانتهت الفسحة، ثم انتهي اليوم الدراسى، وسرنا عائدين لبيوتنا، وتفرق الجمع، كل لمنزله، حتى انفردت  بحكيم، جاري، وهو يسير مذهولًا مهموما وعاشقًا، وأخذت أتأمل فيه، ولاحقتني أحلام الوصل، ورأيت بعين الخيال هبة وهي تقول لي معلشي، وابتسمت وأنا أجهز ردًا ذكيًا، ثم أظلمت الدنيا، وأضاءتها ضحكة، وصوت ندي يقول "ما تفتح".

Avatar

كالمعجزة

الحب ثغرة في منطق العالم

بغيابه، يملأ الشك قلبك إن وجد من الأصل

تعيد تفسير الماضي باستعباد حدوثه

يصبح العالم قابلًا للتوقع، مثيرًا للسأم

قبل أن يحضر مرة أخرى

دون أن يعاتبك، أبدًا، على كفرك المؤقت

يكفيه رؤية حصونك العقلية المتساقطة واحدًا تلو الآخر

بينما تغزو الابتسامة وجهك

كالطفل يفزع من فقد أمه إذا تتخفى مازحة في طرحتها، ويضحك حين تظهر

..

من لم يحب في ذاك الصباح

سيحب في صباح آخر

Avatar

لطول ألفة المراوغة، تنسى كيف يمكنك قول ما تشعر به

لكثرة لجم الاندفاع، تنسى كيف تنساب

(!ألم يكن هدفك من البداية، ألا تكون الأكثر حماسة)

مغموراً بأفكار بلا نهاية، تنسى كيف تصطاد واحدة

وتطفو، ويملأ الهواء رئتيك

خطوة بخطوة، مثل من يتعلم المشي، تقول لنفسك

ومع أول ملامسة للعالم، تعيد اختراع الشرنقة

تطمئن لنفسك: يشبه الأمر قيادة الدراجة

فقط، بدّل بقدميك، وجسدك سيتذكر كيف يتوازن

بالضبط، كما يكمل هذا النص نفسه

هكذا

Avatar

أعرف تمامًا ما يعنيه أن ترتدي الذات ملابس الخروج دائمًا. أحيانًا، أعبر عن نفسي، بأن أفترض نفسًا أخرى، أكثر مثالية، كأنني أنافس على المركز الأول في عقلانية المشاعر. أقول ما أعتقد أنه مناسب لجميع الأطراف. أكتم الغضب والضيق وأتفهم ما لا يتفهم. عشرة من عشرة ونجمة. أخاف من المآلات النرجسية لأدبيات “صدق إحساسك”، لأن المشاعر تخطأ، وتزيح وتحذف وتُركب وتنسى وتتخيل، ولأن الحب والصداقة والرفقة كلها بناءات مظلمة إن أغلق كل منا نفسه تمامًا، فلا يعود هناك مكان للصحبة، للتردد، للخطأ، للعتاب، لكني أخاف أكثر من البيوت المكشوفة تمامًا كمعارض، فالبيت هو المكان الخالي من انتظار الحكم. أنا رجل أحب وأكره (وأحب من يحبون ويكرهون). أتحمل وأتداعى. أمتلأ بالحيوية، حين أحس بالأمان الكافي للانكشاف. وبالوحدة، حين يكون علي أن أحسب كل شئ أفعله. و أذكر نفسي أنه يجب ألا يسلبنا العالم، وضوح أفكارنا أو مشاعرنا(حتى لو لم نتمكن من مشاركة هذا الوضوح)، ليس لأنها صحيحة، ولكن لأنها نحن، ولأننا لا نستطيع محاورتها دون أن نمنحها حق الكلام (فنحن لا يمكننا أن نعي أنفسنا إلا كآخر). أعرف تمامًا ما يعنيه نسيان البيت، وأغضب حين أجبر ذاتي على التيه، فتعاقبني، بالبرودة اللازعة لشعور أنني أحيا حياة شخص آخر.

Avatar

يمكن التفكير في الحب، من جانب واحد، على أنه وسيلة مراوغة لتحويل المعاناة الأنطولوجية الشائعة للإنسان، إلى معاناة خصوصية. التفاف على صعوبة الأسئلة، بصياغة إجابة مستحيلة لسؤال لم يطرح. هرب من ألم تجريدي، إلى ألم مجسد (وإذن قابل منطقيًا للتعامل معه). الحب من جانب واحد، هو في الوقت نفسه، الموضوع الفني الأكثر شعبية على الإطلاق، والأكثر إثارة للاستهجان. الأنس الأكثر قلقًا، والقلق الأكثر تشبعًا بالأمل. فردي حد الوحشية( حيث الحب والمحب هنا كلاهما سجين الآخر، لهذا يمكن المجادلة أنه ليس أكثر من اضطراب بين المرأ ونفسه)، وإيثاري حد الفناء (يعلق المحب وجوده خارج ذاته، بانتظار الاعتراف به). إنه الفكرة الأكثر تفنيدًا على مدار التاريخ (لأنها الاكثر استفزازًا). وليس صدفة أن قصائد هذا الحب، تأتي مصطحبة معها دائمًا جوقة اللوام. كأن عجزهم عن فهم ما يحدث هو بالضبط إثبات عقلانيته. هم لا يرون ما يراه المحب، ولكن لأنه لا يرى جيدًا، لا العكس( بهذا أنضم للجوقة). لكن المحب غير هياب، ويعلم أنه في موقف مضحك(قصائد الحب من جانب واحد، هي درس في التعامل الأنيق مع السخرية من الذات). نحن عاجزين على الداوم عن فهم عشق لسنا طرف به (نحن بالكاد أصلًا نفهم عشق نحن أحد أطرافه)، بينما نفهم جيدًا تجربة أن نكون غير مفهومين(لا نفهم شيئًا قدر ما نفهم هذه التجربة). الحب من جانب واحد، موضوعنا المفضل، لأنه بطريقة ما، يحدث بالنيابة عنا جميعًا، ولأنه، بمعنى ما، لا يوجد حب، بشكل قاطع تمامًا، إلا من طرف واحد (لهذا، وأعي المفارقة، فهو غير قابل أبدًا للتفنيد).

Avatar

ترفض  بإصرار الحب المهدى إليك، ثم تشتكي الوحدة

تبتعد خطوتين عن كل خطوة، وتتفلسف عن الزيف والأصالة

تحب ألمك، لأنه فارغ، وخفيف، مع أنك تسميه أحيانًا ثقلًا وجوديًا

لكني، لست غبيًا، للدرجة التي أعتقد فيها أنك لا تعرف هذا

ترفض بإصرار الحب المهدى إليك، ثم تشتكي الوحدة، ليس لأنك، كما سيخبرك الطبيب النفسي من أول جلسة، تظنك لا تستحقه، ولا لأنك تعشق وحدتك سرًا، ولكن لأنك لا تتحمل تكلفته (الحب، ككل الأشياء، لا يأتي، دون ثمن)

تبتعد خطوتين عن كل خطوة، وتتفلسف عن الزيف والأصالة، لأنك ترجو أن تشعر يومًا، أن هناك من يظن أنك  تستحق الملاحقة (أو على الأدق، أنه يدرك ما يورط فيه روحه)

تحب ألمك، لأنه فارغ، وخفيف، مع أنك تسميه أحيانًا، ثقلا وجوديًا، لكن الثقل في ألم آخر، ألم غير فارغ ، وغير خفيف، وما من سبيل لتهدئته، وتآلمك على ألم فارغ، وسيلة للحفاظ على أرستقراطية المعاناة، بجعلها، بشكل مراوغ، اختيارية، وربما، شاعرية (فقليلة هي الجراح اللبقة)

من السهل، القول، أن علينا الرضى بكل جميل آت

ومن السهل أيضًا القول، أن الجريح، لا يؤلف قصيدة عن فتوة القطار المندفع على جسده

من السهل القول، أن هكذا هي الحياة، لكنك تعلم كيف من السهل، أيضًا، بناء جسور خيالية مهيبة من الفراغ إلى الفراغ (فالمعنى ليس مبتدأَ، و لا مآلَا، ولا ما يتخللهم)

هناك شئ تحتاجه لا تبلغه البلاغة

والحكمة، التي تبحث عنها، بطبيعتها، غير رواقية (فالرواقية هي كسل الحكمة)

وأنا، مثلك، منتبه، تمامًا، لمن هو على وشك أن يقول لي، شيئًا بسيطًا جدًا، ذا معنى

وآسف، إن جعلتك تظن، لوهلة، أنني هذا الشخص

Avatar

“تولوا بغتة فكأن بينًا\ تهيبني ففاجأني اغتيالًا”

يداي تتحركان في كل اتجاه، بينما أتكلم

كأنهما تلاحقان شبحًا يتفلت

في الثانية والثلاثين من عمري

منمكمش، منشرح، صاخب، هادئ، مندفع، أحمق، حكيم، حاد، رقيق، غاضب، مستلسم، ساخر، خجول، منضبط، متفلت، صريح، غامض، مجرب، غر، وصوتي عال دائمًا، كأني أنادي غائبًا لا يعود

أمشي سريعًا، أقرأ سريعًا، أكتب سريعًا، أفقد أعصابي سريعًا، أكون صداقاتي سريعًا

وأبدو نشيطًا دائمًا، مفارقًا رصانتي المزيفة

ألعب بكل ما يمكنني الوصول إليه، كطفل خارج عن السيطرة

أخسر عوالمي، واحدًا تلو الآخر

كَأَنَّ الحُزنَ مَشغوفٌ بِقَلبي \ فَساعَةَ هَجرِها يَجِدُ الوِصالا

كل ما خسرت واحدًا، راهنت بعالم كامل آخر

كمدمن مقامرة، لا يعلم متى يترك الطاولة

محاط بصداقات عميقة، وبحب لا أزال أتفاجئ منه

أحس أحيانًا، أني علي وشك غزو الدنيا، وأحيانًا، أمسمر قدمي في الخندق

وعَلى قَلَقٍ كَأَنَّ الريحَ تَحتي \ أُوَجِّهُها جَنوباً أَو شَمالا

وأقلق من بائع الفاكهة، محصل الكهرباء، سائق التاكسي، ومن الطيور في الهواء

من المفاجأت، ومن المواعيد المرتبة، من الهدوء والعاصفة، من الحديث العشوائي والمهندم، ومن الانكشاف، والاختفاء

وأشعر دائمًا، كأني نسيت موعدًا شديد الأهمية

كأن علي أن أكون في مكان ما آخر

مكان لا يمكنني تذكره

ويطبق على قلبي، كأنه لم يغادرني أبدًا، لأنني أحمله، لأنني هو

أتوه في شخصياتي المتعددة، وأنسى من علي أن أكون

وَلَولا أَنَّني في غَيرِ نَومٍ، لَكُنتُ أَظُنُّني مِنّي خَيالا

تائه، ثابت، مغامر، متحفظ، فرح، كئيب، عازم، يائس، ضجر، نشوان ، عاشق، كاره، آفل، لامع ، متوتر، رزين، هائج، ضحوك، عبوس، متفلسف، جاهل، متسرع، وأحب أن أتكون خطواتي محسوبة، كأن العالم في انتظاري

وأَشَدُّ الغَمِّ عِندي في سُرورٍ\ تَيَقَّنَ عَنهُ صاحِبُهُ اِنتِقالا

لكني أقبل الخسارة، لأني أعرف قوانين المقامرة

أقبل نهاية الأشياء، لأن ذلك مضمر في ابتدائها

أقبل الحب العابر، لأنه حب، والصداقة الزائلة، لأنها صداقة

أقبل الحكمة بعد موعدها، الابتسامة الجميلة في غير وقتها، والمرح في الأوقات السيئة، والأحاديث الحميمة مع من أعرف أنها ستكون، معهم، آخر الأحاديث، وكل ما تمسك به شبكة وجودي من جميل، أحبه، حتى وأنا أعلم أن الشبكة ستفلت من يدي

كَذا الدُنيا عَلى مَن كانَ قَبلي\ صُروفٌ لَم يُدِمنَ عَلَيهِ حالا

لكني، مع هذا أقع في الحب عمدًا، أحب كأنها المرة الأولى، كأنها المرة الأخيرة، أتحمس لكل جديد أتعلمه، أفرح بكل من أعرفه كأنه يمنحني الدنيا، وأنهي كل شئ قبل اكتماله، لأنني أخشى نفاذ الوقت، “كل الطرق تؤدي إلى أماكن مدهشة”، أقول لنفسي، أعبر من طريق لآخر، أبدل هواية بهواية، أغير هاوية بهاوية، الدنيا أوسع من عيني، لهذا أتلفت، مندهشًا

بَدَت قَمَراً وَمالَت خوطَ بانٍ\ وَفاحَت عَنبَراً وَرَنَت غَزالا

وأنا أجري، قلقًا، فرحًا، مختالًا، حزينًا، حذرًا، معتدًا، متقطع الأنفاس

ويداي تتحركان في كل اتجاه، بينما أتكلم

كأنهما تلاحقان شبحًا يتفلت

Avatar

وأنت تنظر للعالم

تذكر أنك، أبدًا، لا ترى ما تراه

هناك ما يختفي بوقاحة خالصة في منتصف المشهد

منتظرًا، المستقبل

وبأثر رجعي تمامًا

وتقريبًا، وهو غير موجود،وحينها فقط، ترصده

حد معين من انفتاح العين، يفقدك الوضوح

حد معين من انغلاقها، يفقدك البصيرة

Avatar

لا الورود على النوافذ، أو تناسق ألوان الحوائط

لا السحاب الخفيف، أو السير في المطر

لا الضحكات العالية ولا الأمل المفاجئ

لا الرفق المشاعي ولا الحنان الدقيق

ما يجعل هذه المدينة، جميلة هذا اليوم

شارع، “عادل”، إليك

تخرجه المدينة، من قبعتها

كساحر، يؤكد، أن عرضه

ليس فقط لم ينتهي

بل، بالكاد، قد بدأ

Avatar

نظريًا، ليس هناك خيط رفيع يفصل بين شيئين، بين الحب والكراهية، بين الضجر والغضب، بين السعادة وأريحية الرتابة، كل ما في الأمر، أن اللعبة اللغوية التي نلعبها غالبًا ما نسقط في شراكها، محاولين الحفاظ على تماسكها المنطقي.  نفترض بناءً عقليًا لأمر واقعي، ثم نميل لحشر الأشياء كيفما اتفق لتلائمه، هذا سهل، لكننا أيضًا نميل، بحسنا النقدي، حين ندرك ضيق أي بناء عقلي عن الاتساع للعالم، أن نفترض ثانية أن هذا البناء مخلخل من أساس ما، ونعتبر أن افتراض هذه الخلخلة “البنيوية” يمنح الثبات، ليس للبناء نفسه، ولكن لمحض وجوده، مع أننا لم نفعل إلا حماية خيال بخيال. ونعجب بالكتاب حين يفرقون برقة بين شعورين، مثلًا بين الارتباك أمام واجب، وارتباك الواجب أمام “دقة” تقدير ما يجب عليه، أو بين الانجذاب للجميل، والانجذاب لجاذبية الانجذاب نفسه، أو بين بغض بؤس الآخر وبؤس بغضه وبغض بؤس بغضه، في كل الحالات، يستعملون مشارط جراحية وهمية للفصل بين متخيلين مشوشين، ثم تزيين كل طبق متخيل مشوش منهما، ليلائم شراهتنا لليقين، شراهة لا يمكننا الكف عن إطعامها، ولا تشبع أبدًا

Avatar

ليس لأنك ستختلط عليك الأمور

(فالارتباك، نظير الوجود)

ولا لأن ماهو “جميل” لا يستطيع إلا الإعلان عن نفسه

(فالجمال هو انضباط الصدف)

ولكن حد ما من الانكشاف أمام العالم

(وإذن انكشاف العالم)

يغوي المرء، بأنه أكثر من نفسه

(أي يمكنه أن يقطع طريقين في نفس الوقت)

البصيرة، وحدها، من تكسب العالم

(كإمكانية)

ووحدها، من تخسره

(كحقيقة)

Avatar

يتودد الجرح بالحنين، يغازلنا الحنين بمشاهد مفصولة عن امتداداتها، تغوينا المشاهد بسكونها، بديمومتها المزيفة مرتين، مرة لأنها لم تدم، ومرة لأنها تتغير كل مرة نستدعيها فيها، كل شئ هو جرح في الزمن، يشمل ذلك السعادة والهناء، إذ على كل جرح في النهاية أن يندمل، أو يكبر ليصير أكثر من مجرد جرح، هوية. الجرح، بمعنى ما، هو أثر الوجود، بقدر ما الوجود نفسه جرح في الفناء، والهوية هي الجرح متأهبًا، ومعتدًا بذاته. الشوق هو الحنين آملًا، وغرًا، الجرح في حالة ضجره، حالمًا بالهلاك. السعادة، جرح أكبر مفتتنًا بنفسه ناسيًا أي جراح أخرى، والهناء، الجرح في آن زواله، دون أن يزول. البلاغة هي محاصرة المعنى، في كلمة أو جملة، لكنها لا تملك غير المحاصرة، لا يضيق الخناق أبدًا على المعنى، لدرجة الاستسلام، لكنه يضيق كفاية، ليمنحنا الوعد بالفهم، الفهم بصفته وعدًا بدوره بتبرير الجرح، أو مصادقته. الصداقة بماهي إتفاق على الانجراح سوية، دون فرار، كما الحب هو الصداقة مع الجرح نفسه، الجرح مصادقًا عليه، ومحبوبًا لذاته، ومعتدًا، دون تأهب.

You are using an unsupported browser and things might not work as intended. Please make sure you're using the latest version of Chrome, Firefox, Safari, or Edge.