ليس هذا حديثًا عن الحب
أَلا يا نَسيمَ الريحِ حُكمُكَ جائِرٌ..عَلَيَّ إِذا أَرضَيتَني وَرَضيتُ _قيس بن الملوح
كنت أفكر أن أكتب تحليلا مزدوجا لشئ آخر غير الحب، التحليل كان سيشمل قصة "عم نتحدث حين نتحدث عن الحب" وفيلم كيسلوفسكي" فيلم قصير عن الحب"، الفكرة في ذهني بسيطة، القصة والفيلم لا يتحدثان عن الحب ، يعلمان ذلك، يتحدثان عن شئ غالبا ما يتم دمجه في الحب، هذا الشئ قد يكون هو الهوس، قد يكون الحب من جانب واحد، بعد تعريته من أي شاعرية، قد يكون اضطرابًا نفسيًا. لكني لن أكتب.
تولد الأفكار في ذهني في ذروة فتوتها، ثم يقص حسي النقدي كل ريشها، ولهذا غالبًا لا تطير. تظل تتقافز حولي كأن بوسعي أن ألصق الجناحين مرة أخرى، وهو أمر أظنني لا أستطيعه، لكني أستطيع تأمل لماذا نفرت من الفكرة بعد سطوعها الأول. السبب بسيط، لأنها تتحدث عن شئ لطالما تحدثت عنه، هذا الخيط البسيط بين الهوس والحب، تشترك القصة والفيلم ، في رسم صورة قبيحة للهوس بالمحبوب، وملاحقته، والدبدبة في الأرض، بشكل يُفشل أي تدخلات جراحية لإنقاذ شاعرية ما فيه.
في القصة كما نعلم يجلس أربعة، ميل وزجته تيري، والراوي نيك وزوجته لورا، يتحدثون عن الحب، تحكي تيري عن الرجل الذي عاشت معه قبل زوجها ميل، أنه أحبها لدرجة محاولة قتلها، تحكي عن عنفه تجاهها، ثم ملاحقتها بعد انفصالهما وتهديده الدائم لها ولزوجها، تعكيره الدائم لصفو حياتهم، حتى أن ميل يشتري سلاحًا ليدافع عن نفسه إن اقتضت الحاجة. يتدخل زوجها في القصة كل حين ، ليؤكد أن هذا ليس حبًا بكل تأكيد، بينما تيري، مصرة على أنه حب، قد يكون حبًا غريبًا لا يفهمه زوجها، لكنه حب، يبدو رد فعلها مفهوما الآن، فهي من جهة أصبحت آمنة، والمحب المهووس لن يصل إليها، فقد انتهى به الأمر في المستشفى، حيث جلست تيري معه في لحظاته الأخيرة، وإذن لم يتبق منه سوى هذه الحكاية، وهي تريدها حكاية حب، لتبرر الألم بأثر رجعي من جهة(المعاناة كانت ابنة حب حاد وغريب، وليس نتيجة لانخداع أو سوء حسابات)، ومن جهة، لأنه ماذا يمكن أن يملأ روح أي إنسان أكثر من حب جارف، كيف يمكن لإنسان أن يرفض هذه الاحتمالية، ويفسرها بأنه مجرد هوس اتخذ المحبوب موضوعًا، حيث الهوس هنا ليس أحد درجات العشق، بل العشق هو مجرد تجلي للهوس، الهوس هو الموضوع الحقيقي خلف الحب.
ومن جهة ثالثة وأهم، ففي بداية قصتها، وبعدما حكت عن عنف رجلها السابق، أدارت تيري نظرها حول الطاولة وسألت "كيف تتصرف مع حب كهذا؟".
شوق لا يسكن باللقاء
هذا السؤال الذي يلخص ارتباك تيري، يصلح مدخلًا لفيلم كيسلوفسكي، في الفيلم عامل شاب في البريد(توميك)، يتلصص ، عن طريق تليسكوب، على امرأة ثلاثينية جميلة(ماجدا) في عمارة مقابلة، يشاهد طقوسها اليومية، بكاءها، عشاقها، يبعث لها حوالات بريدية مزيفة ليراها حين تأتي لمكتب البريد لصرفها، وحين يكتشف أن عامل توصيل اللبن الذي يوصل اللبن لماجدا قد رحل، يأخذ عمله ليوصل لها اللبن كل صباح ليقترب منها، بجوار عمله الأصلي في البريد، بعد مشاجرة في البريد، حين تنفعل ماجدا من الحوالات التي تأتي كل مرة لأخذها ثم تكتشف زيفها، يتتبعها توميك و يخبرها بتلصصه عليها، تغضب، وفي الليل تقرب سريرها من النافذة المفتوحة ليراها مع أحد عشاقها بوضوح، تخبر العاشق ما يحدث فينزل من العمارة وينادي على توميك ويلكمه، في الصباح وهي يوصل اللبن لشقتها، يخبرها عن حبه لها، يرتبك، ويفر، يضع ثلوجا على وجهه كأنما ليطفئ مشاعره، يعود لشقتها ثم يدعوها لتناول القهوة معا:
_ماذا كنت تقول في الصباح؟
_أحبك
_لا يوجد شئ مثل هذا
يذهب لبيتها، تجعله يمسها حتى يصل للنشوة، تخبره" أريت..هذا ما تسميه الحب، ..اغسل نفسك في الحمام..هناك منشقة"يفر من شقتها، يعود لشقته، تشعر بالذنب وتحاول التواصل معه بلا فائدة،ه، ومثلما وجدت تيري نفسها في القصة مصرة على أن تكون بجوار حبيبها القديم في المستشفى، تحاول ماجدا أن تفعل الشيء نفسه، تذهب لبيته لتطمئن عليه بحجة إعادة معطفه، تخبرها العجوز بما حدث، وتسألها:
_ قد تظنين الأمر مضحك، لكنه وقع في حبك..هل وقع في حب الشخص الخطأ؟
تجيب ماجدا :نعم
تظل ماجدا تراقب نافذة توميك حتى يعود من المستشفى. فكرتي كانت أن توميك لم يقع في حب الشخص الخطأ بالخطأ، بتعبير آخر، لم يكن يمكنه إلا الوقوع في حب الشخص الخطأ، الشخص الخطأ هنا في المكان السليم في القصة، صحيح يمكن تفسير الفيلم أن بطله هو توميك، أسير معضلة حب المحبوب، وعدم الرغبة أو القدرة في الوصول إليه، لكن، في رأيي، الفيلم يتحدث عن معضلة ماجدا، التي لخصتها تيري "كيف يمكن تلقي حب مثل هذا"، وفي الفيلم والقصة، هذا الحب لا يمكن تلقيه، إنه ملقى من البداية لكي يتحطم ويحطم كل من يحاول تلقيه، لا ليتلقاه الشخص الصحيح.
"من قام بثيابه الحريق، كيف يسكن؟"
نفس المعضلة توجد أيضًا في أحد قصائد عماد أبو صالح:
"يهددها القمر بالانتحار
لأنها تحب ولدًا آخر
تفرد ثوبها
وتقف في الليل وحيدة
لتتلقفه إن ألقى بنفسه"
ولا أعلم بالطبع إن كان عماد يقصد ذلك أم لا، لكن مجاز القمر مفيد في توضيح المعنى، فهي لن تتمكن من تلقف القمر، وما سيحدث هو أنه سيحطمها ويحطم عالمها كله.
إذن لماذا استصعبت فكرة كتابة التحليل، لأن كل ما أقوله، يعتمد على الاتفاق مع الزوج ميل، "هذا بالتأكيد ليس حبًا"، ومثل ميل لا يمكنني الاستطراد أكثر من النفي، لا يمكنني أن أشرح لماذا هذا ليس حبًا، أو أن أضع معايير للحب، وأعيد تعريفه، لأنضم لملايين الكتاب الذين حاولوا دون جدوى فعل ذلك، ليتخبطوا بين نصائح مبسطة في علم النفس، ومراوغات لغوية صوفية تتحصن بالغموض من التصريح بالعجز عن الإجابة، وبين إعادة اختراع الفكرة الرومانسية عن "شقيق الروح"، الحبيب الذي نعرفه بنظرة، "المختار" الذي بمجرد أن نلتقيه أن ما سبق كان أحلاما عن الحب، والآن واقعه. وأفكر هل إذن لا يمكن تعريف الحب، إلا بالنفي المتكرر ، دون إثبات أي شئ؟.. لا أصل لنتيجة، وأعود أفكر في السؤال الأول "كيف تتصرف مع حب مع كهذا"، وطبعًا، أصل، إلى أحمد رامي.
يااللي كان يشجيك أنينى
في الأغنية ، لم يجب رامي عن السؤال "كيف تتلقف حب مثل هذا؟"، لكنه أجاب عن سؤال يسبقه وإن لم يتم طرحه : "لماذا عليك أصلًا أن تتلقف حب مثل هذا"، وإجابته كما نعرف: "
عزة جمالك فين، من غير ذليل يهواك؟!
وتجيب خضوعي منين ولوعتي بهواك؟!"
يجب تلقي هذا الحب، لأنه يحقق ذات المحبوب، بفناء ذات المحب، والمحبوب هنا لا تتعرض نرجسيته لأي مساءلة، فاستغراقه في نفسه، هو السبيل الوحيد لاستغراق المحب في حبه أو هوسه، الاستغراق الذي هو استسلام لانعدام وجود حلول، وليس مصادفة أن المحبوبة في الأغنية، هي ذاتها، لا تستطيع أن تتلقف هذا الحب، وينتهي بها الأمر كما تيري وكما ماجدا، أسيرة هذا الحب وآسرته: "صبحت أبكي على حبي وتبكي انت على دموعي".
والانهمام بالحب نفسه، أكثر من المحبوب، يظهر كذلك في اغنية أخرى لرامي، وربما يفسر لي مقطعًا لطالما فكرت فيه بدون أن أصل إلى تفسير مناسب، والأغنية طبعًا هي ، "انت الحب".
تبدأ الأغنية بتأسيس عالم السباق في الحب"
ياما قلوب هايمة حواليك.... تتمنى تسعد يوم برضاك"
ثم توضح أن الشاعر هو جزء من هذا السباق:
وانا اللي قلبي ملك ايديك... تنعم وتحرم زي هواك
ثم توضح مميزات المحب في هذا السباق وجدارته:
"الليل عليّ طال... بين السهر والنوح
واسمع لوم العذّال.... اضحك وانا المجروح
وعمري ما اشكي من حبك.... مهما غرامك لوعني
ثم خوفه من خسارة هذا السباق:
لكن أغير من اللي يحبك.... ويصون هواك أكتر مني.
الغيرة هنا لا تحدث لأن المحب الآخر قد يظفر بالحبيبة، ولكن لأنه قد يظفر في سباق الحب نفسه، الحبيبة خارج الحدث، ولا تمثل حتى نقطة النهاية فيه. والحب/الهوس هو السباق والجائزة ونقطة البداية والنهاية معًا، وإذن يكون منطقيًا أن تنتهي الأغنية بلقاء متخيل مع محب آخر:
"ولما اشوف حد يحبك.... يحلالي اجيب سيرتك وياه
واعرف جراله إيه في حبك.... وقد إيه صانه ورعاه
أسأله إن غبت عنه يا حبيبي يشتاق إليك قدي أنا
وان جافيته يا حبيبي يسهر الليل ويناجيك زيي أنا
ألاقي قلبي أنا.... حبه ما جه على بال"
يستغرق المحب في الحب، ويقيسه بجوار حب الآخرين، الحب هنا قابل للتعيير والقياس، وأصالته لا ترتبط بفرادة ذاتية، ولا بصلة خاصة بالمحبوب كما في التصور الرومانسي للحب، بل ترتبط بموقعه في السباق، الموقع الذي لا يمكن تحديده إلا بشكل ذاتي، ولا يمكن التأكد منه إلا بالمزيد من الاستغراق فيه.
إذن لماذا لن أكتب عن القصة والفيلم؟
لأنهما لا يتحدثان عن الأمر نفسه. في القصة الزوج المؤذي، يظفر بالحبيبة، وفي ظفره بها، لا يفيده ذلك في شئ، وتحليل إجرامه، يحتاج معلومات أخرى لا يمكن تخمينها، وهي بالأحرى غير موجودة في شخصية خيالية، وفي الفيلم، الشاب الأعزب المرتبك المحصور داخل عالم من صنع خياله، ينتمي لفئة أخرى غير الزوج العنيف، أهش، وتظهر فيه المراهقة في حدة المشاعر وفي عدم احتمالها، في الخوف والجرأة، في التلصص والتصريح، في الهروب المتكرر مما كان يحسب نفسه يطارده، أما رامي، فهو شخص حقيقي، يستحيل الفصل بين أغانيه وبين حياته، ويستحيل الجمع بينهما، دون السقوط في التلصص الخيالي على حيوات قديمة هجرت مبانيها. لكن هذا قد يكون رده أن الحديث ليس عن الشخصيات بل عما يربط بينهم، هذا "الحريق" الذي يحرق صاحبه ويحرق ما حوله، وقد يكون هذا صحيحًا، فمفهوم بالطبع أني لا أناقش شخصية رامي، بل المحب في القصيدة، كان رامي أم كان ضرورة شعرية، كما أن حتى شخصية المحب في قصائده تظل أحن وأطيب من الشخصيات الأخرى بما لا يقاس. لكن مناقشة المشترك بجدية، تحتاج لتحمل ثقل عاطفي لا قبل لي به، ويمكن التخلص من هذا بالقول أن شخصيات المحبين مختلفة، وشخصيات المحبوبات مختلفة أيضًا، وهن أيضًا عاجزات عن تلقف هذا الشئ الذي لا يمكن تلقفه، ودون السقوط في فخ النصائح أو الحكم الجزافي بالمرض النفسي، قد يكون لسان حال المحبوبات، في الرد على السؤال "لماذا لم تتلقفنن مثل هذا الحب"، هو ما قالته بدرية طلبة في لا تراجع ولا استسلام : " ايه القرف اللي انتوا جايبينه دا".
خاتمة أكثر اتساقًا
لكني أعرف أن النهاية السابقة هي مراوغة وليست ختام. أفكر أن الحب في النهاية كلمة، ورغم احتمال الكلام لمدلولات شتى، يحتمل أن الحب ككلمة قد تحطمت في السيل التاريخي لمحاولات التدليل عليها، والأجدى أن نستخدم كلمات أخرى، أقل ضبابية، لكنها ستكون عزلاء من كل حصون الشعر والبلاغة والحكايات المتراكمة تاريخيًا حول الحب، وإذن أقل إيحاءً بالتعالى عن منطق العالم، الإيحاء الذي يحمي الإنسانية بدوره، من الانزلاق إلى التعبير عن كل المشاعر الإنسانية بلغة "السوق"، مثل ، العرض، والطلب، والاحتكار، والقيمة التبادلية، والقيمة النفعية، وغيرهم. فإن كان التعبير عن الحب بالحب، يعرضنا، بجانب التيه الدلالي، لمخاطر تبرير الأذى، أو صعوبة الإمساك به بعد تحاميه بالحب، فاللجوء إلى كلمات أكثر مباشرة، ينزع منا حتى الحق في الألم، لأن الألم يصبح نتيجة لقوانين كونية، لا يمكن مساءلتها. لتكون المعضلة: هل يمكن التدخل جراحيًا لفصل الحب عن الهوس به، بحيث يحتفظ بتعاليه، وفي الوقت نفسه، لا يصير حصنًا لأشياء أخرى تتحامي به؟
عند هذه النقطة أنتبه لشئ قد يبدو بديهيًا، كان انجذابي للكتابة عن الفيلم والقصة، هو مخالفتهما لوعدهما، فعنوان الاثنين، يوحي بقصة يكون فيها الحب خيرًا، أو مآساويًا جميلًا، لكن ما فعلاه أنهما تحدثا عن الحب، كضلال بين، مثلما يضلل العنوانان القارئ والمشاهد، وأن هذه الفكرة لم تكن طائرًا قصصت أجنحته، بل أجنحة صنعت لها طائرًا، حلق وهلة، ثم ها هو يسقط، ليستريح.
خاتمة ثالثة تصلح كملاحظة
أنتبه أخيرًا أن اقتضاء الحاجة لصنع الطائر حول الجناحين، استبعد تحليلات لم يكن لها مجال. مثلًا أعرف أن الفيلم ، كانت نسخته الأقصر هي الحلقة السادسة من مسلسل من عشر حلقات، استلهم فيه كيسلوفسكي "الوصايا العشر" التي أعطاها الله لموسى. وبالتحديد كانت الحلقة عن الوصية "لا تزن"، ولذلك يمكن تحليل الفيلم بشكل مغاير ليتركز حول التفسير العلماني الذي يقوم به كيسلوفسكي لوصية دينية. أيضًا، في القصة، هناك أبعاد أخرى للحب، حب ميل وتيري أنفسهم، علاقة ميل بزوجته السابقة، الحب بين الراوي نيك وزوجته لورا، كلهم أبعاد حاضرة في القصة. أما إن وصلنا لرامي، فتحليل أغانيه كخطاب ثابت، رغم أنها كتبت على مدار سنين طويلة، هو وصفة أكيد للفتي ولوي عنق الكلام. وليست مصادفة في رأيي، أنه بينما أكتب هذا المقال، كنت أفكر في كلمة "المؤلف"، التي تستخدم في اللغة العربية للدلالة على الكاتب. ولا أظني بحاجة للاستطراد أكثر من هذا (أو بالتحديد يحتاج الموضوع لاستطراد لا أقوى عليه، وهو السبب الأساسي في التردد في الكتابة)، فالطائر قد سقط منذ الفقرة السابقة، وإنما جلست، زيادة، لأؤنسه.