Alexandria’s Industrial Heritage: The Case of Mina al-Basal

image
image
image


بسمة سيف

كثيرا ما يحس المرء بالإحباط وهو يشاهد معمار الاسكندرية النادر وهو يتلاشى بفعل أعمال الهدم، وتتعرض معه الذاكرة الجماعية للسكان إلى الدمار والزوال فى وقت أصبحت الشعوب فى كل أنحاء العالم تعى الأهمية البالغة للحفاظ على تراثها الثقافى وتخرج بحلول تحافظ على تراثها لصالح الأجيال القادمة.
يعد تنفيذ مثل تلك الحلول - مثل الترميم وإعادة التأهيل وتعديل الاستخدام - مؤشرا على مدى اعتزاز أى شعب بتراثه وثقافته. وفى إطار جهود الحفاظ المعمارى، سوف أناقش هنا اقتراحا لإحياء “مينا البصل"، وهو حى قديم بالإسكندرية، من خلال تحويل منشأة صناعية به إلى متحف.
يتميز التراث المعمارى فى الاسكندرية بالتنوع، حيث تضم تلك المدينة مؤسسات ثقافية ودينية ومبانى سكنية وصناعية ومعمار من الطرز البحر متوسطية والأوربية. لم يحظ المعمار الصناعى فى مصر حتى اللحظة بأى نوع من التوثيق التاريخى. وعندما نتحدث عن ضرورة الحفاظ على تراث الاسكندرية، يجب أن نفكر فى الحفاظ على التراث الصناعى أيضا. يتركز التراث المعمارى الصناعى فى الاسكندرية يتركز فى حى مينا البصل بسبب قربه من قناة المحمودية وأيضا من الميناء الغربى المتخصص فى الصادرات والواردات.
يعود تاريخ مينا البصل إلى حقبة محمد على باشا، حيث لاحظ حاكم مصر أن قرب الاسكندرية من استنبول هو أمر ذو قيمة اقتصادية كبيرة. وقد خطط محمد على لنمو مصر الاقتصادى على نحو استراتيجى، تضمن التركيز على البنية التحتية (السكك الحديدية والطرقات) وما إلى ذلك، وأثمرت جهوده عن تحويل مينا البصل إلى منطقة صناعية ونقطة جذب للمال والأعمال.

image
image
image

فى مينا البصل توجد شونة للقطن وصوامع للحبوب وبنوك و"بورصة مينا البصل"، والأخيرة كانت تعد ثانى أكبر بورصة فى المدينة بعد بورصة الأوراق المالية، وكانت تتخصص فى تبادل السلع. تم إنشاء البورصة فى 1872 للتعامل مع حركة تصدير القطن من مصر. وقد أتى توسع المدينة فى التجارة والبنية التحتية فى أعقاب ادماج مصر فى الاقتصاد الأوربى العالمى.
فى خلال الكفاح الذى خاضته مصر من أجل الاستقلال عن الحكم البريطانى، استمرت التنمية العمرانية فى الاسكندرية على قدم وساق. وكان ميدان التحرير، الواقع بين بورصة القطن وبورصة الأوراق المالية، مركزا للنشاط التجارى. وفى وقت لاحق، انتقلت أهمية ميدان التحرير كمركز تجارى إلى ميدان سعد زغلول، الذى ما زال يعد القلب النابض للأسكندرية حتى الآن. استمرت سوق الأوراق المالية فى النشاط حتى ثورة 1952، وبعدها توقفت عن العمل. أما بورصة القطن فاستمرت فى العمل حتى موجة التأميمات، ثم توقفت بمجرد صدور القرار الجمهورى رقم 39 لسنة 1967.
تلك السياسات الاقتصادية الجديدة تركت أثرها على الحى، الذى أصبح مجرد شاهد على حقبة انقضت من الانتعاش الاقتصادى. هذا المركز هام لصناعة القطن فى القرن التاسع عشر تراه الآن وقد باتت معظم مبانيه الصناعية وشونه خاوية على عروشها.
مبانى مينا البصل لها تاريخ غنى تأرجحت فيه بين الثراء والفقر. وللأسف فإن مينا البصل ليست حاليا إلا مجرد حى يكسوه التراب. باتت المبانى التاريخية والصناعية مهجورة ومتهالكة، وأصبحت قناة المحمودية ملوثة وغير مستغلة، بل أنها تستخدم أساسا كمصرف.
برغم تلك الأحوال المزرية، فإنك عندما تزور المنطقة وتبدأ فى السير فى شوارع الحى بمحاذاة ترعة المحمودية حتى تصل إلى الميناء الغربى، فإنك لا يسعك إلا أن تحس بعبق التاريخ. السكينة التى تغمر الشوارع العتيقة والتفاصيل الجميلة فى واجهات المبانى تجعلك تحس بأنك دخلت إلى عالم آخر.
لا يجب أن يقتصر الحفاظ على التراث الصناعى على المعمار أو أن يتم عزله عن سياقه المعاصر. عملية إعادة التكوين وتعديل استخدام التراث الثقافى هى عملية معقدة، وأهم ما فيها هو السعى لخلق مساحة تسمح بالتفاعل الديناميكى بين العوامل الاقتصادية وغيرها من المؤثرات التى تتضمنها عملية تعديل استخدام التراث الصناعى.
يركز مقترح الحفاظ على الحى الصناعى على تطوير المنطقة بأكملها وأيضا المناطق المحيطة بها. وتتضمن المبادرة الهادفة لإعادة تطوير التراث المعمارى الصناعى عدة محاور:

الحفاظ على الحى وجوهره. و"الجوهر” هنا يعنى الطابع المعمارى للمكان وإمكانية استخدامه كنقطة جذب سياحية

تطوير ترعة المحمودية وإعادة بناء مناطقها التجارى والمساحات العامة القريبة منها

تجديد مختلف المبانى وإعادة استخدامها بغرض توفير الخدمات والوفاء باحتياجات سكان مينا البصل

image
image
image

نظرا لأن مينا البصل كانت هى المركز التجارى لمدينة الاسكندرية، فإن الشوارع الموجودة بها كانت مزدحمة على الدوام بالعمال والشيالين والمشترين والباعة. من اللحظة التى وصل فيها القطن إلى الاسكندرية، كان يبدأ فى أخذ دورته: من التصنيع إلى التصدير وكل الأنشطة الوسيطة الأخرى. كانت عملية التصنيع تتسم بالإدارة المحكمة لضمان كفاءة العمل. كل خط  انتاج كانت له وظائفه المحددة وكل من يقوم بالعمل كان يعرف بالضبط ما هى المهمة المطلوبة.
سواء تم نقل القطن إلى الاسكندرية بالقطار أو الطريق البرى أو نهر النيل، فإن كل بالة قطن كان يتم دمغها باسم زهرة القطن واسم المزارع ورقم جنى القطن. وعندما كان القطن يصل إلى مينا البصل، كان المسؤول عن نقل الشحنات يوقع الإيصال على رصيف الميناء. بعدها كان يتم إرسال القطن إلى الشونة. وأخيرا كان المسؤول عن نقل الشحنات يصدر تعليماته للشوان حول الطريقة التى يجب بها نقل وتخزين البضاعة.
كان القطن ينقل بواسطة العربات الكارو. العربجى يضع أربع أو خمس بالات على عربته ويتوجه إلى الشونة المخصصة لتلك البضاعة، وعندها يقوم العمال والشيالون بنقل تلك البالات إلى مكانها تحت إشراف الشوّان. وقبل التخزين، أى بمجرد دخول القطن إلى الشونة، يتم وزنه.
يتم تشوين القطن فى الطابق الأرضى والعلوى. كما يتم أخذ بعض العينات لكى يتسنى للمشترين فحص نوعيتها. بعد اتمام التعاقدات، يكتب اسم المشترى على قطعة نحاس مثقوبة تثبت على كل بالة.
قبل تصدير القطن يجب أن يتم تنظيفه من التراب والشوائب وأيضا القيام بعملية الفرفرة التى تمكن العاملين من تحديد نوعية الخامة استعدادا لمرحلة الغزل. بعد ذلك يتم رش القطن بالماء وضغطه على شكل بالات متماثلة الحجم.

image
image

هذا المستوى من الكفاءة الذى تمت به تجارة القطن، هو ما نقترح الآن أن يتم تطبيقه فى التعامل مع تلك المنطقة بوصفها مكان متكامل. والهدف هوتحويل منطقة مهملة ومهجورة إلى مجمع تاريخى تتخلله الخضرة ويجذب السائحين والزوار.  تهدف استراتيجية إعادة التخطيط المقترحة إلى تحويل الحى المذكور إلى منطقة معمارية وحماية تراثه، مع رسم مسار سياحى يرصد مسار صناعة القطن، فى شكل جولة للزائرين.
تم اقتراح تحويل ترعة المحمودية إلى منطقة محمية فى تقرير الحفاظ على المبانى التراثية فى الاسكندرية عام 2007.
حتى الآن تم التعامل مع الواجهة العمرانية على ضفاف الترعة بشكل يقصر عن استغلال امكانياتها الواضحة. فى الوقت الحالى، تستخدم تلك المنطقة فى الصرف الزراعى وتمثل عائقا أمام الأهالى فى مينا البصل، من ناحية سهولة الحركة وايضا من ناحية تلوث المياه وما يرتبط به من مخاطر صحية.
تقدم ترعة المحمودية فرصة بديعة للنمو العمرانى ليست مستغلة حتى الآن. هناك أساليب متعددة يمكن بها استغلال تلك الواجهة على المياه والكثير من الاحتمالات التى يمكن المفاضلة بينها.
من خلال إعادة تشكيل وتعمير البحيرة القريبة يمكننا استعادة ذلك الإحساس بالتوازن الذى يفتقده الأهالى. ومن شأن التعديلات التى يمكن أجراؤها على ضفاف الترعة أن تسمح للأهالى بالوصول مباشرة إلى ضفاف المجرى المائى. تلك التعديلات يمكنها أن تعطى معنى جديدا لهذا المكان، بحيث يصبح ضفاف الترعة نقطة صلة وجذب فى الحياة اليومية للأهالى.
تركز عملية التطوير المقترحة على خلق منطقة ترفيه عمرانية مرتبطة بالمجرى المائى القريب وبها ساحات عامة خضراء. تلك الآفاق الجديدة التى تخلقها إمكانيات الترويح على ضفاف المجرى المائى يمكن أن يكون لها تأثير واضح على الجوانب البيئية والاقتصادية والثقافية.
أماكن التشوين التى بنيت فى القرن التاسع عشر هى هياكل تستحق التأمل. عندما ترى مثل تلك المنشآت المرتبطة بأنشطة التجارة والصناعة القومية والدولية خلال تلك الحقبة، فإن مجرد وجودها يعنى أن مدينة ما قد تم ادماجها فى شبكة تجارية نشأت بسبب تطور تكنولوجيا النقل.
اليوم وبعد أن تلاشى الغرض الأصلى لوجود تلك المبانى الرائعة، فإنها باتت فى خطر. والحفاظ عليها هو أمر له أهمية بالغة من جهة الحفاظ على الشكل المميز والروح الخاصة لمناطق التجارة والصناعة السابقة ولأنه أيضا يخلق نوعا من التواصل بين الماضى والحاضر. مينا البصل هى حى تجارى وصناعى يشمل مجموعة ثرية ومتنوعة ونادرة من الشون القديمة والتى تستحق الحفاظ عليها.
يمكن تعديل المبانى القائمة لتناسب استخدامات جديدة، وهو ما تعارف على تسميته “بالاستخدام المعدّل”. فى تلك العملية، يتم تعديل المبانى لتوائم استخدامات جديدة مع الاحتفاظ بسماتها التاريخية. ويجب أن يتم اختيار الاستخدام الجديد على أساس نوعية المساحة الأصلية. وفى حالة المصانع والشون القديمة، يمكن استخدامها كمتاحف او معارض أو مكتبات أو منشآت ترفيهية وتجارية، أو توليفة من كل ما سبق.
عندما تم سؤال آهالى مينا البصل عما يحتاجونه فى هذا المكان وعن طبيعة الحياة فى مينا البصل، قالوا إننا معزولون عن وسط المدينة، وليس لدينا مستشفيات قريبة والمنطقة ليست آمنة خلال الليل بسبب الاعتداءات والسرقة.

image

المدخل الاستراتيجى للاستخدام المعدّل للمبانى المتميزه يجب أن يتجنب الهدم العام والتعديلات الفظة للمبانى القائمة، وهى أمور أدت فى الماضى لاختفاء الكثير من العناصر القيمة فى النسيج المعمارى.
مبنى شونة القطن يوجد على ناصية التقاطع بين شارعى الخاتمى وابن طولون. شارع الخاتمى يمتد بجوار ترعة المحمودية بينما يقودنا شارع ابن طولون إلى كوبرى التاريخ الذى يعود تاريخه إلى حوالى عام 1930. ويتميز مبنى الشونة بواجهة تستحق الاهتمام.
خلال النصف الاول من القرن التاسع عشر، ظهر الطراز المعمارى الرومى الذى أدخله محمد على إلى البلاد عندما أحضر المهندسين والمعماريين والحرفيين المتخصصين فى هذا الطراز من تركيا، مما أدى لظهور قوى لهذا الشكل المعمارى على ساحة المعمار المصرى.
تم بناء الشونة على الطراز الرومى، حيث تتميز الواجهة ببوابة عريضة تعلوها منارتان، وهناك منارتان أخريتان على جانبى المبنى. الواجهة تخلو من الزخارف وبها صفوف من النوافذ الضيقة ذات الأقواس. أما البوابة الحجرية فتقودنا إلى المدخل من خلال إطار من الزخارف يكسو طريق الدخول. عند تأمل نوعية المبانى والهيكل القائم يتضح أن ما يتبقى من الحقبة الصناعية هو القسم الخارجى للمبنى فحسب، حيث تعرض المبنى إلى تغييرات إنشائية واسعة فى السبعينات من القرن الماضى على ما يبدو.
تلك الشونة، بفضل موقعها وتاريخها، يمكن أن تتحول إلى متحف متخصص فى تاريخ صناعة القطن فى مينا البصل والآثار الصناعية لذلك النشاط. ومن الممكن أن يقصّ متحف القطن هذا تاريخ انتاج القطن للأجيال القديمة التى تتذكر ماضى المنطقة، وإيضا للزوار الأصغر سنا والذين قد لا يعرفون هذا الماضى.
يجب أن يتم الاستخدام المعدّل بطريقة متكاملة، من خلال إضافة عناصر جديدة وتحقيق سيولة فى مسار الحركة. ومن المقترح تفريغ مساحة من الخلف من أجل إضافة منطقة ملحقة، وأيضا هدم الحوائط الخلفية لخلق مساحة للترفيه وووضع بعض المعروضات فى الهواء الطلق. ويلزم تطوير النظام الإنشائى بإقامة أعمدة من الصلب لحمل الطابق العلوى الذى يمكن إضافته.
للأسف فإن سياسات الحكومة لا تتماشى فى الكثير من الأحيان مع رؤية المعماريين ومجتمع المثفقين فى الاسكندرية. والأمر الذى يجب أن نتذكره جميعا هو أن الدول المتحضرة هى تلك التى تقوم بإثراء حياة مواطنيها والحفاظ على تاريخها.

  بسمة سيف هى من خريجى قسم العمارة بكلية الفنون الجميلة في جامعة الأسكندرية

4 notes

Show